بقلم: علي عبيد
“في أحد الأيام، عندما كنت حاكما للعين في المنطقة الشرقية، كنت أتمشى في طرقات العين، وكان معي في هذه الجولة أحد الأصدقاء، وهو ضابط إنجليزي كبير، وأحسست وأنا أرى الناس والبيوت والجبال والوديان، أن حضارة هذا البلد تكاد تصرخ فيّ، وتدفعني دفعا إلى بناء دولة عصرية حديثة. هنا أخذت أشير وكأنني في حلم روحي عذب؛ هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية، وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء، وهناك في أبوظبي سننشئ ميناء في هذه المنطقة بالتحديد، أما المطار فسيكون في تلك النقطة، وهنا جامعة، وهنا المستشفى، وهنا قوة الدفاع، وهكذا وهكذا. وضحك صاحبي وقال لي: دعك من أحلام اليقظة.
ومرت الأيام، ونسيت الحديث كله، حتى جاء في يوم الصديق نفسه بعد أكثر من عشرين سنة ليزورني بعد أن اعتزل الخدمة في بلاده، وكان مندهشا للقريتين اللتين رآهما في ذلك الوقت كيف أصبحتا الآن، وقال لي: هل تذكر ذلك الحديث الغريب؟ إن كل شيء عينته بُنِيَ في المكان ذاته الذي حددته، المصانع والكهرباء والمستشفى، حتى الدفاع، كل هذا تحقق ولم تكن أحلام يقظة”.
هذه القصة على لسان المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أوردها الصحفي الهندي “كرانجيا”، مالك ورئيس تحرير جريدة “بليتز” الهندية، في حديث أجراه مع الشيخ زايد، رحمه الله، في 4 يونيو 1970. وعلق عليها قائلا: “إن هذه القصة حدثت قبل أن يحلم أحد أن هناك بترولا سيتدفق في هذه المنطقة، أو أن الشيخ زايد سيكون حاكما لتلك البلاد. إن مثل هذه الحالات لا تحدث إلا للزعماء الملهمين، وزايد فيه الكثير من صفات الزعيم الملهم”.
نستذكر هذه القصص والأحاديث عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ونحن نعيش هذه الأيام الذكرى الحادية عشرة لوفاته، التي تحل مجددة وفاء شعب الإمارات لقائده المؤسس، مؤكدة محبته العميقة له، كما لم يحب شعبٌ قائدا ومؤسسا وملهما، تماما مثلما أحبته كل شعوب العالم، على اختلاف جنسياتها وبلدانها.
إن المتأمل لشخصية الشيخ زايد، رحمه الله، يجد أمامه نموذجا فريدا للقيادة، قلما يتكرر عبر التاريخ، فقد كان، رحمه الله، قائدا يستلهم الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف المستقبل. تتجلى ملامح شخصيته في نقاط عدة؛ أبرزها أنه كان صريحا ومباشرا، لا يستخدم الألفاظ المنمقة والبراقة، ولا يزيف الواقع، ولا يتلاعب بالكلمات، ما يقوله داخل الغرف المغلقة هو نفسه الذي يقوله خارجها، لا يحب المناورات السياسية، فالسياسة عنده تطبيق للمبدأ الذي ينادي به، وأي انفصال بين الأقوال والأفعال عنده ليس سوى خداع وكذب ونفاق.
كان زعيما طموحا، منفتحا على التيار الوحدوي بشكل لافت، مستعدا للتضحية بأي شيء في سبيل تحقيق طموحه هذا. الاتحاد في نظره هو طريق التقدم والخير والقوة والانطلاق الحضاري. يؤكد دائما على أن الفرقة لا ينتج عنها إلا الضعف والتدهور والاضمحلال، وأن الكيانات الصغيرة لا مكان لها في العصر الحديث. لا يؤمن بالحدود الجغرافية المصطنعة، ويرى أن المستعمر وضعها لتقسيم الوطن وتجزئته. يؤمن بأن إرادة الحاكم تتفق مع إرادة الشعب لتحقيق الوحدة.
لم تكن السلطة عنده غاية، وإنما هي وسيلة لخدمة الناس، وتحقيق الرفاهية للشعب. وكانت مصالح الوطن عنده أمانة يحملها على عاتقه. يؤمن بأن الحاكم، أي حاكم، ما وجد إلا ليوفر لشعبه سبل الرفاهية والتقدم، ومن أجل هذا الهدف يجب أن يعيش بين شعبه، ليتحسس رغباته، ويعرف مشكلاته، ولن يتحقق له ذلك إذا عزل نفسه. الزعامة عنده إذا لم يمنحها الله القوة في الفكر والبدن والعقل، تضعف وتتلاشى. يؤمن بالحرية، ويعتبرها هدفا أساسيا يسعى إليه الانسان، ولا يستطيع أن يعيش بدونه. يؤمن بتوزيع المسؤوليات، وعدم احتكار السلطة، ولكن مع حسن اختيار المعاونين ومتابعة عملهم، للتأكد من أنهم يقومون بأداء واجبهم على أفضل وجه، لأن السلطة عنده لم تكن مغنما.
كان، رحمه الله، حالما، لكن الفرق بينه وبين بقية الحالمين أنه استطاع أن يحول الأحلام إلى حقائق على الأرض. لديه مقدرة عجيبة على كسب الأصدقاء ومضاعفة عددهم. أفعاله وإنجازاته في جميع المجالات أضعاف أضعاف كلماته وتصريحاته وبياناته. كان يمتلك قدرة هائلة على الرؤية الثاقبة لاستشراف المستقبل وآفاقه الواسعة، ويمزج بين المثل العليا والإنجازات العملية، كما كان يملك وضوح رؤية أدى إلى اتساق نظرته، ومعالجته لكل الأمور والقضايا والمشكلات بحكمة وبصيرة ثاقبة.
ما قاله زايد، طيب الله ثراه، فعله. وهذا ما يسير عليه اليوم أبناؤه الكرام البررة، وشعبه الوفي، ليحافظوا على منجز زايد الأساسي، وقد كان منجزه الأساسي هو الإنسان، ركيزة كل بناء ونهضة.
رحم الله زايد، وأجزل له العطاء، بقدر ما قال وفعل وأنجز.