قصة قصيرة جداً بقلم/ سوسن شمعون
من واقع الحرب
وقف عند باب المستودع وهو يصرخ طالباً من العمال نقل الحمولة للشاحنات بسرعة وفي هذه الأثناء أتاه اتصال من المركز يؤكد فيه الحصول على الموافقة الأمنية لإرسال قافلة المساعدات وموعد و مكان نقلها و توزيعها للأهالي من الطرف الشرقي للمدينة المنكوبة و المنقسمة جراء الحرب هناك , فردّ قائلاً أن أسماء العائلات مسجلة في الجداول و سيتم إدخالها مساء اليوم ليتسلمها أصحابها غداً في الصباح , وقبل الانطلاق صلى العشاء في جماعة مع رفاقه و مساعديه و همّت القافلة في رحلتها , وفي الطريق وصلت رسالة هاتفية لقائد المجموعة مفادها حدوث غارات جوية على المنطقة المراد إيصال المساعدات إليها فقرر المتابعة مدركاً أن هذه الغارات لن تصيب أناساً مهمتهم مساعدة المحتاجين من العالقين في أماكن الاقتتال و يجب أن ينهي هذه المهمة مهما كلف الأمر , بدا الجو بارداً و ظلام الليل غطى المساحات الشاسعة على طول الطريق مما جعل القائد يسرح في ذكرياته مسترجعاً أياماً خلت مع عائلته و محدثاً نفسه عن حالهم بعد بُعده عنهم نتيجة عمله الشاق , أخرج صورة ابنه الشاب الذي استشهد في العام الماضي نتيجة الأحداث الدامية في البلاد و نظر إليه نظرة ملؤها الحزن و العتب , كيف تركتنا و ذهبت قبلي يا بني ؟ كم أتمنى لقائك و احتضانك , و طوال هذه الفترة كان هذا الأب المفجوع يرهق نفسه بالعمل الخيري معتقداً أن ذلك قد ينسيه جرحه و يجعل ابنه مسروراً و فخوراً لقاء ما يفعله والده لأجل المحتاجين و المتضررين في أي مكان من البلاد التي أنهكتها الحروب , أراد دائماً أن يكون في المقدمة بأي مبادرة إنسانية و كأنه يثأر لفقدان ولده , كان لا يدّخر جهداً في تقديم يد العون لأيٍ كان و يغلبه الشعور بالمسؤولية تجاه ذلك فيشرف على كافة أعمال الاستقصاء عن العائلات المحتاجة و الفقيرة و تقديم ما يلزم لها تحت أي ظرف , كان يجهد نفسه في السعي ليل نهار لأجل ذلك العمل الذي أفنى عمره فيه , و ما إن وصلت القافلة إلى نقطة التوزيع حتى طلب رئيسها من العمال البدء بإفراغ و إحصاء الحمولة و همّ بمساعدتهم في ذلك , لكن ما لفت نظر الجميع حينها أن هناك أصوات اشتباكات و قصف قريبة جداً من مكانهم فنادى القائد بالمجموعة قائلاً : لا تخافوا و أنا معكم سنكمل عملنا بأسرع وقت , يجب أن تصل هذه المساعدات للمحتاجين , أفرغوا الحمولة لتعودوا جميعكم إلى بيوتكم و أنا سأبقى حتى أوزعها غداً , كونوا مخلصين لعملكم الإنساني لأجل هؤلاء الفقراء . انصاع العمال لطلب مشرفهم فهم يعرفونه دائماً يحب أن يكمل كل شيء , كانوا يحبون العمل معه لأنه بالنسبة لهم الأخ و الصديق و الأب و المساعد قبل أن يكون القائد و الرئيس لتلك المجموعة , هو مَثلهم الأعلى في التفاني و الإخلاص و الالتزام بروح الفريق , و استمر الجميع بإنزال الحمولة مع قائدهم و فرزها في المخازن رغم أصوات الاشتباكات و الانفجارات القريبة و رائحة البارود التي تغزو الأجواء , الكل كان يعمل بجد و كد و تعلو وجوههم ابتسامة مشرقة , لم يكن أحد يتذمر من هذا الوضع والفريق يعمل بقلبٍ واحد و روحٍ واحدة , بعد برهة من الوقت سمعوا هدير طائرة حربية تقترب من الموقع فبادر بعضهم للاختباء داخل أحد المخازن بينما قال البعض إنها تحلق فوقنا فحسب , لم تمضِ ثوانٍ إلا وقد اشتعلت المنطقة برمتها كجذوة نار و ابتعدت الطائرة هاربة من إثم ما رمته على العمال و شاحنات القافلة , تحول كل شيء إلى ركام و دمار و انتشرت أشلاء من كان موجوداً في تلك البقعة , تفحمت الجثث واحترقت صناديق الأغذية و الملابس و اللوازم المدرسية و بطانيات الشتاء , لم يبقى شيء , زحف أحد الجرحى الذين احتموا في المخازن إلى الخارج ليرى تلك الفاجعة بعينيه و بقي يقاوم ألمه باحثاً عن ناجٍ آخر حينما رأى قائد القافلة شهيداً مبتسماً مضرجاً بدمائه قرب إحدى الشاحنات المحترقة , كانت صورته و كأنها تختصر ألم و أمل الناس المقهورين ,كان يمسك بجهازه اللاسلكي و ينظر للأعلى ,ومازال يصدح صوته في مخيلة ذلك الجريح , كان أقوى وأعلى من أصوات المعارك والحروب و يصدح في كل الأرجاء , كان يسمعه يصيح بحماسه المعهود :سأكمل عملي يجب أن تصل تلك المساعدات للمحتاجين