بقلم: محمد منسي قنديل
مرة أخرى يجد اقباط مصر أنفسهم في فوهة النار، ضحية عداء غير مبرر تشنه الجماعات متطرفة، مهما اختلفت اسمائهم فهم يعتقدون أن تطهير العالم لا يتم إلا بالدم، لكنهم يزيدون من تدنيسه، ولكن اخواتنا الاقباط المساكين يدفعون، كالعادة، ثمنا مضاعفا، مرة لأنهم يفتقدون الحماية الأمنية الكاملة، ومرة أخرى لأنهم من حملة الصليب، إنهم الهدف السهل الذي لا يرد الضربة، لقد تركوا لمصيرهم، ورغم تكرار الهجوم عليهم واختلاف صوره إلا انهم لم يحظوا بالرعاية التي يستحقونها كأرواح بريئة لها الحق في الحياة، ولكنه حق مهمل في بلد مثل مصر، الموت فيها سهل والحياة شاقة والعيش دائما على حافة الخطر.
وقائع الحادث واضحة وصادمة، طقس ديني يحدث على مدى سنوات، اسر مسيحية تخرج بالحافلات في طريق صحراوي طويل لتزور أحد الأديرة، رحلة معروفة وموعدها محدد، تسير في طريق لا تحيد عنه، لكنه مكشوف دون أي حماية، هل كانت الشرطة على علم بهذه الرحلة؟، هل وضعت في حساباتها أن هؤلاء البشر يحتاجون إلى حماية، إلى بضع من سيارات من الأمن تسير بصحبتهم؟ أم أن دمائهم كانت رخيصة، كيف فات هذا الأمر على الأجهزة الأمنية في «الفشن» وكيف لم تتم محاسبتهم على هذا الاهمال، لقد اوقفهم مسلحون يرتدون زيا عسكريا ويضعون اقنعة، دون خشية، وصعد واحد منهم إلى حافلة مليئة بالنسوة العزل والاطفال الذين لا يفهمون معنى ما يحدث، وبدءوا يطلقون النيران على الرؤوس، ولم ينسوا أن يتركوا واحدة من الشهود على قيد الحياة، حتى تروي بشاعة ما حدث، وتحمل رسالة الرعب لنا جميعا.
يدفع اقباط مصر من دمائهم ثمنا لكل الاحداث والصراعات، ثمن مضاعفا كما قلنا، يدفعون ثمن سقوط نظام الاخوان المسلمين في مصر لأنهم وقفوا بجانب النظام الجديد، ولم يكن أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك، لأنهم كانوا يحاولون انقاذ انفسهم من نظام كان يكرههم، ومازال انصاره يكفرونهم علانية، كانوا يدافعون عن وجودهم وحقهم الطبيعي في هذه الأرض، ولكن بعض المتطرفين ينكرون عليهم هذا الحق، ولا يدفع الاقباط الثمن محليا فقط، ولكن ثمن ماتعانيه هذه الجماعات عربيا وعالميا ايضا.
لم تعلن داعش ولا أي جماعة أخرى عن مسئوليتها عن عملية اغتيال اقباط مصر، رغم أن بصماتها الارهابية واضحة، آخر عملية اعترف بها داعش كانت في مسرح مانشستر في بريطانيا، عندما قام سليمان عبيدي بتفجير نفسه وسط حفل حاشد، وقد قتل 22 شخصا بما فيهم الانتحاري نفسه اضافة إلى عشرات الجرحى، والانتحاري رغم جذوره الليبية العربية هو واحد من الذين عاشوا وشبوا وتعلموا في الغرب، وقد استغلت داعش نقمته على المجتمع الذي يعيش فيه وحالة الانفصام الاغترابي التي يعاني منها واستطاعت أن تخترق عقله وتقنعه بالإقدام على هذه العملية الانتحارية، أو هكذا يبدو، لأن كلمات البيان الذي صدرت بعد عشر ساعات من الحادث كانت متناقضة، فقد اعلن البيان الذي ظهر على وسائل التواصل بلغات مختلفة، أنه بعون من الله قام جنود داعش بوضع عبوات ناسفة وسط حشد من الصليبين في مدينة مانشستر الإنجليزية، و تم شرح الامر كما لو أن هناك أكثر من عملية، واكثر من قنبلة مزروعة في المكان، وهو امر لم يتم اكتشافه بعد ذلك، وتجاهل البيان وجود الانتحاري وأن قنبلته هي الوحيدة التي انفجرت، ولم يشر البيان أيضا إلى اسم سليمان عبيدي الذي قام بالعملية الانتحارية، ومن الواضح أن البيان قد أعد قبل الحادث، وأن وسائل الاتصال الخاصة بها ليست كالسابق.
معلومات داعش ليست ناقصة فقط، ولكن رقعة الارض الفعلية التي تحكمها آخذة في التناقص أيضا، أنها تعاني من حرب تدور من بقعة إلى أخرى، وهناك دعم أمريكي في العراق وروسي في سوريا خلف القوات التي تقاتلها، لقد فقدت داعش 66% من الاراضي التي كانت تحتلها في العرق، ونصف اراضيها في سوريا، ما يوازي مساحة الأردن، و تحرر 4 مليون شخص من سطوتها، واصبحت الأرض التي تتحرك فوقها في شمال سيناء ضيقة وخانقة، ولكن مازال باقيا تحت سطوتهم 2.7 مليون شخص في العراق و1.4 مليون في سوريا، كما أن المقاتلين الاجانب الذين يعملون في صفوفهم قد قتل معظمهم، فمنذ عام 2014 انضم إلى داعش حوالي اربعين الفا من كافة انحاء العالم، ربعهم فقط هم الموجودين في ميادين القتال، أما الباقية فقد قتلوا أو تراجعوا وتركوا ميادين القتال.
في الموصل التي كانت تمثل اكبر المدن في حيازة الدولة الاسلامية المزعومة، مازال هناك حوالي الف مقاتل يخضون معركة شرسة في الجزء القديم من المدينة رغم أنهم قد فقدوا تفوقهم، ومع فقدان هذا التفوق وجهت داعش دعايتها لبقية الذئاب المنفردة التي تعمل في الخارج، وهي تستخدم في ذلك مجلتها الالكترونية «رومية»، واسمها مأخوذ من المدينة التاريخية التي فتحها الخليفة المعتصم، باعتبارها رمز المسيحية في الغرب، انطلقت «رومية» في الخريف الماضي، وكان هدفها كما اعلنت «انها تسعى لأتاحت الفرصة للمسلمين المقيمين في اوروبا لترويع الصلبيين»، ونشرت مقالتين تدعو فيه المجاهدين في اوروبا وامريكا إلى استخدام الطعن بالسكاكين والدهس بالسيارات في أي زحام ينتج عن الاحتفالات والاسواق، بعد ذلك بوقت قصير قام عبد الرزاق ارتان مسلحا بسيارته بمهاجمة العديد من الطلبة داخل جامعة اوهايو. وهذا الشهر اعلنت داعش عن تكتيك جديد تدعو فيها انصارها في ارض الكفر إلى استغلال مواقع التواصل الاجتماعي للدعوة إلى اجتماعات بحجج وهمية، مثل نشر اعلان عن وظائف خالية، او تأجير عقارات، ثم يأخذون الحاضرين كرهائن، ليس من أجل طلب فدية، ولكن لقتلهم جميعا، والهدف هو الحصول على دعاية واسعة وبث الرعب في قلوب الكفرة.
داعش وبقية التنظيمات التي تنتمي إليها تتمدد حتى تتفادى الانكماش، تعود إلى جذورها الاولى وتقوم بهجمات ارهابية لتثبت أن ايدلوجيتها مازالت على قيد الحياة، تريد أن يرى الجميع أنها مازالت قادرة على القيام بالعمليات ومازالت تتمتع بالقوة، رغم ان القتال يوشك على الانتهاء، إن الاضطراب الذي تعاني منه داعش يمكن ان يزيد من خطورة هجمات الذئاب المنفردة، والهجوم على اقباط مصر هي واحدة من هذه الهجمات، انصارها الموجودين داخل مصر يحاولون أن يهبوا لها قبلة الحياة الأخيرة، يبحثون عن الحلقة السهلة، غير العنيفة، والتي لا ترد بالعنف عالعنف، حتى يستعرضوا عليها قوتهم، ولكنهم في لحظات الاحتضار الأخيرة، وسوف يبقى اقباط مصر، ينعمون بالسلام الذي دفعوا ثمنه، لأنهم جذر الحضارة في هذا البلد.