بقلم: محمد منسي قنديل
يعود علاء عبد الفتاح ليوخز ضمائرنا من جديد، أربع سنوات من الغياب المجحف خلف القضبان، فقد وجهه استدارته، وازدادت كثافة لحيته، ولكن عينيه لم تفقد بريقها، جيفارا جديد يولد من تراب مصر، ويدفع ثمنا غاليا لخط النضال السلمي الذي اختطه لنفسه، يعود لبرهة وجيزة من الزمن ليقف أمام قضاة غاضبين، يجددون أمر سجنه دون مبالاة بوضعه الإنساني، يعانون الدرجة نفسها من الغضب التي كانوا عليها عندما اصدروا حكمهم الأول، ذلك القاضي كان يدرك أنه قد اصدر حكما متعسفا، وحاول أن يبرره أمام نفسه قائلا أنه استخدم أقصى درجات الرأفة، أي نوع هذا من الرأفة الذي يحكم بخمس سنوات من السجن المشدد على مجموعة من الشباب الغض لمجرد الوقوف على أحد الارصفة أمام مجلس النواب، لم يفعلوا أكثر أنهم كانوا ضد قانون التظاهر، وضد تقديم المدنيين للمحاكمات العسكرية، لقد شملت قائمة الاتهامات الموجهة ضد علاء حوالي خمس تهم كلها انشائية لا تتعدى حدود الكلمات لم تتطور إلى فعل غير فعل الاحتجاج، بينما مورست ضدهم كل انواع الافعال العدوانية، خراطيم المياه التي انصبت عليهم، القنابل المسيلة للدموع التي خنقتهم، وتعرضهم للضرب بالهراوات والاعتقال والاحتجاز، واكمل القاضي ذلك كله بالحكم بالإدانة، لم يبال بما لاقوه من عنت واهانات، وكأن الدور الأساسي لرجال الأمن هو ممارسة العنف الزائد دون خشية من أي مسائله، وعلى الشباب أن يدفعوا الثمن مضاعفا لمجرد أنهم اعترضوا على قوانين غير طبيعية تسير حياتهم رغما عنهم، فالعلاقة بين المواطن والسلطة الحاكمة هو نوع من العبودية الطوعية، إلا في مصر، فالعبودية هي نوع من القدر الذي يشكل حياتنا ويجعلنا غير قادرين على المجاهرة بأي رأي.
يعود علاء عبد الفتاح ليذكرنا أنه ذات مرة كانت هناك ثورة، فشلت في تحقيق أهدافها، وتشوه تاريخها، وتحولت من انتفاضة تطالب بحق الناس إلى مؤامرة عالمية، ولكن هذا كله لم يمنع من يوجد من استفاد منها وأحسن استثمارها، هناك من اقتسم اجساد الشهداء الذين سقطوا في الميدان، حولوها إلى مكاسب شخصية لهم، صعدت وجوه جديدة إلى مناصب السلطة وهي تلعن الثورة، وجاء جيل جديد من رجال الأعمال بنفس شراهة الجيل السابق، وظهر جيش من منافقي السلطة يطنطنون في اجهزة الاعلام في قدح الثورة واتهام كل شبابها بالعمالة، تحالفوا جميعا على عزل كل من شارك في الثورة من الصورة، إما داخل السجن أو خارج البلاد، كأنما كأن هناك اتفاق بينهم آلا يتركوا الفرصة لقيام الثورة من جديد.
علاء عبد الفتاح هو ابن الانتلجنسيا المصرية، النخبة المتعلمة التي تمخضت عنها الطبقة الوسطى، تلك التي تحملت عبء الثورة قبل أن تنضم إليها بقية فئات الشعب، اسمه مركب وطويل بعض الشيء، علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد، ناشط سياسي حقوقي، والده هو احمد سيف الاسلام المحامي المدافع عن الحقوق السياسية للمواطنين التي اهدرت طويل أيدي كل الأنظمة المصرية وهي مهمة جليلة قام بها من خلال مركز هشام مبارك للقانون، ووالدته هي الدكتورة ليلى سويف استاذة الرياضيات بكلية علوم القاهرة، وشقيقتها هي الأديبة القديرة اهداف سويف، وجده هو الدكتور مصطفى سويف استاذ علم النفس الشهير، وزوجته هي منال بهي الدين حسن ، خبيرة في التكنولوجيا ووالدها حسن بهي الدين الناشط المعروف في حقوق الانسان، عائلة نادرة بجموع افرادها ومستواهما المرتفع عالميا واجتماعيا، عائلة مثل هذه لا يمكن أن تكون خانعة، لايمكن أن تكون مثل العديد من العائلات المصرية التي لا تحرك ساكنا مهما مر بها من احداث، ويجب ان يكن الابن صنو ابيه كعضو عامل في الحياة السياسية، وقد بدأ علاء نشاطه مبكرا في عهد مبارك الذي استطال واوغل في الفساد واستغل سمة الطواعية في الشخصية المصرية وأخذ يعد ابنه لخلافته، هذه الطواعية واستكانة المصريين لأهواء حكامهم هي أحدى الصفات التي طالما كرهها جمال حمدان في الشخصية المصرية، فما أن يعلو نجم حاكم، سواء كان شرعيا أو غير ذلك، حتى يلهج الجميع بالثناء عليه، وينقادون إليه دون تفكير ودون قدرة على النقد والمحاسبة، ولكن بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ولدت حركة «كافية»، مجرد حجر صغير ألقي في بحر المعارضة الراكد، ولكن دوائر الاحتجاج ظلت تواصل الاتساع حتى وصل إلى حافة الخامس والعشرين من يناير لينزع المصريين من على اكتافهم رداء الخنوع، وكان علاء عبد الفتاح هو أول من نزع هذا الرداء، ففي عام 2006 اعتقل للمرة الأولى عندما شارك في الوقفة التضامنية من أجل استقلال القضاء، وكانت التهمة هي اهانة أحد القضاة، وانشأت زوجته مدونة بعنوان «الحرية لعلاء عبد الفتاح»، وصرحت قائلة لأحد الصحف الأجنبية : لقد بدأنا ولن نتوقف عن الاحتجاج بعد الآن، وتم الافراج عنه بعد 45 يوما، ولكن مدة الاعتقال طالت بعد ذلك، فرغم رحيل مبارك وانهيار نظامه إلا أن قبضة النظام لم تتراخ، ففي أحداث ماسبيرو التي اندلعت ابان حكم المجلس العسكري وأهدر فيها عددا من ارواح اخوتنا الاقباط ، تم القبض عليه مرة أخرى ووجهت إليه تهما اشد عنفا، بل واستطاعت قوى الأمن أن تجند صحفية ناشئة حتى تدلي بشهادة تدعي فيها أنها شاهدت علاء وهو يضرب أحد الجنود ويستولى على سلاحه ويلقي به في النيل، تهمة لم تصمد طويلا، ولكن السجن تواصل بسبب الموقف الذي اتخذه علاء في وجه من يحاكمونه، لقد رفض أ يخضع للمحاكة العسكرية وأن يجيب على اسئلته، لقد اصر على آلا تتم محاكمته إلا أمام قاضيه الطبيعي، مع ان هذا القاضي أثبت فيما بعد مدى قسوته، فقد تراجع قضاة المحاكمة العسكرية أمام هذا الموقف الصلد، وحولوه لنيابة أم الدولة التي لم تجد بدا من الافراج عنه، ولكن قانون منع التظاهر الجديد تحول ليكون سيفا مسلطا على الجميع، على كل مظاهر الاحتجاج، كان النظام الجديد يفرض نفسه بنصوص مخالفة للدستور، كان ابرز ضحاياه هم شباب الثورة، خاصة شباب الثورة على وجه التحديد.
في الأيام الأولى لسجن علاء عبد الفتاح في طرة استقبلت الحياة أولى صرخات ابنه، فتح الطفل عينيه فلم يجد أباه، لكنه كان ابن الثورة، حمل اسم خالد تيمنا بأيقونتها خالد سعيد الذي اطلق مصرعه الشرارة الأولى للثورة، ولم يشاهد خالد الصغير أباه إلا في زيارات السجن الخاطفة، أنه في الرابعة الآن، ولن يظفر بحضن أبيه إلا بعد عام اضافي، ربما يستطيعا أن يتحدثا معا، وربما يظل الوطن آمنا حتى يراه وهو ينمو وأن يعلمه كيف أن الروح تبقى طليقا مهما احاطوها بالقضبان.
بالمناسبة: روح كلمة مذكرة