بقلم: محمد منسي قنديل
بلا مقابل.. تراق دماء غزيرة على الأسفلت ، كل يوم يصدمنا خبر اغتيال بعض من رجال الشرطة، معظمهم مجندون صغار السن، يقضون شهور خدمتهم، ويغادرون إذا كتب لهم النجاة وهم لا يدرون بالضبط من الذي يوجه الرصاص إلى صدورهم، ولا لماذا يترصدهم بالذات، أسوأ الكوابيس التي يواجهها الأنسان هو عندما لا يعرف عدوه، ولا يتوقع موعد أو مكان الضربة التي يوجهها إليه، لقد اصبح التنمر ضد رجال الشرطة ظاهرة جديدة في المجتمع المصري، خاصة ضد الحلقة الاضعف منهم، جنود الدورية، ولم تعد العملية ضدهم تتم في الخفاء، ففي واقعة «البدرشين» الأخيرة حدثت واقعة القتل في وضح النهار، تحت اعين المارة الذين وقفوا يتفرجون، ووسط السيارات التي تعبر الطريق دون أن تتوقف واحدة منها للتحقق مما يحدث أو تقديم يد المساعدة.
افراد الشرطة في معظمهم غير مجهزين للرد على هذه الهجمات، ولو تأملنا المعدات التي يحملها أي شرطي في كل مكان في العالم لاكتشفنا أن رجل الشرطة في مصر يسير عاريا تقريبا، اغلبهم يحملون بنادق فارغة من الطلقات، فالطلقة عهدة يتم محاسبته عليها، والكثيرون منهم لا يعرفون كيفية اطلاق النار، قوتهم المؤثر تكمن في «هيبة الشرطة»، على الخوف الموروث في نفس المواطن المصري ازاء سطوة السلطة، مجرد تواجد الشرطة فقط كاف لتعويض أي نقص في قوة النيران، ولكن الأمر قد تغير، ظهر ضعف الشرطة جليا، وعدم قدرتها على الرد الفوري، كما أن انتشار الصور والفيديوهات كشفت عن العديد من الاخطاء والتجاوزات التي يقوم بها بعض افرادها، اضافة على الاخبار التي تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي عندما تتم تصفية عناصر اجرامية ثم يتبين أنه ليست لها صلة بالحادث، وقد تراكمت هذه الأمور لتكون قناعة خاصة لدى بعض المواطنين أن الشرطة لا تقوم بالعمل بالطريقة الصحيحة ولا تصيب الهدف الصحيح، لقت ضعفت القوة المعنوية التي كانت تمثلها الشرطة رغم سقوط عدد كبير من ضحاياه، وضاع ايضا القانون الذي لم يلتزم به الخارجون عليه ولا الذين يمثلونه.
ولكن ما يثير الرعب فعلا هو وجود كل هذا العدد من القتلة الذين يسيرون بيننا، هؤلاء الذين يشبهوننا في الملامح ويدركون مدى قسوة الظروف التي نعيش فيها ومع ذلك لا يتوقفون عن الكيد لنا والانتقام منا ومحاولة اثارة الرعب والفزع في نفوسنا، فالمعركة التي يثيرونها ليست موجهة فقط ضد جهاز الشرطة او افراد الجيش، ولكنها ضد كل فرد وكل اسرة، انها ليست ضد الاكمنة الخارجية على الطريق ولكنها في داخل كل بيت مصري، ضد كل أمهات واباء الشهداء، هؤلاء القتلة يدركون انهم يضربون في لحمنا الحي، يحاولون اثارة رعبنا بكل وسيلة، أنهم قتلة متسلسلون كما يطلق عليهم في التوصيف الجنائي، فالقاتل من هذا النوع هو الذي يقتل ثلاث ضحايا في ظرف شهر واحد، وهذا ما نواجهه، اغتيال يومي، في حالة القتل المتسلسل يقتل النساء من اجل المال، ويقتل الرجال من اجل الجنس، وفي حالتنا يقتلون من اجل الانتقام، لا يهمهم الحفاظ على ارواح الآخرين ولا حتى ارواحهم، جيل من ابناء الموت ممتلئين بالحنق والغضب، ويحسون بالظلم من كل الانظمة ويبلورون كل مشاعر الاحباط في داخلهم في رغبة الانتقام، لذا من السهل اصطيادهم وغسل ادمغتهم من شيوخ الانتحار والجماعات السرية، انهم يهيئونهم للموت باعتباره طريق الشهادة والوصول إلى الجنة حيث يتخلصون من احساس الظلم والمهانة الواقعة عليهم، يؤكدون لهم أن الموت في الدنيا ليس فناء فعليا ولكنه مجرد بوابة يعبرون منها إلى عالم آخر، أكثر مثالية وأكثر عدلا، وحتى يكون ذلك مستحقا عليهم أن يحدثوا أكبر قدر من الخراب، وأن يسقطوا أكثر عدد من الضحايا قبل أن يرحلوا، أي جنة يمكن أن تنتظر هؤلاء القتلة وهم يدخلون إليها ملوثين بالبارود ومخضبين بالدم؟
من اين جاءت هذه الرغبة في الانتقام وما يتبعها من حقد لا يهدأ، وكيف تم زرع هذا القدر من التدمير في نفس الانسان المصري الذي عرف دوما بوداعته؟ هناك العديد من الاسباب التي علينا أن نواجهها بصراحة، يمكن اختصارها في ثلاث:
أولها: صدمة ميدان رابعة العدوية: رغم مرور ثلاثة اعوام على هذه الواقعة الدامية فلا زالت آثارها مستمرة، بوصلة المشاعر لهذه اللحظة من تاريخنا، تحولا جارفا انتقل من ارض الواقع إلى داخل النفس، احس معظم الناس بالراحة رغم مشهد الجثث، زالت فجأة صيحات التهديد والوعيد التي كانت تملأ الميدان على مدى أكثر من اربعين يوما، وظلت ادخنة الحرائق تتصاعد منه لعدة ايام، لم بعد هناك فرصة للتصالح أو الحوار ولم يكن أحد من الطرفين يريد ذلك، ولكن كان هناك آخرون خرجوا من بقايا الميدان وهم يحملون نفوسا تتحين الفرصة للانتقام، نفوس احست بالظلم والاهانة ولم تستطع أن تنسي أو تتجاوز الصدمة، لقد ايقظت داخلهم روح المظلومية التي عاشوا في ظلها طويلا، من بين هؤلاء جاء القتلة المتسلسلون، يزرعون العبوات الناسفة في اماكن متفرقة، يحاولون اغتيال بعض الشخصيات، يفجرون مديريات الأمن، ثم تركزت عملياتهم ضد رجال الشرطة، وكلما نجحوا في هجمة غاضبة، تاقت نفوسهم لواحدة أخرى، لقد اعيد ترميم الميدان وتنظيفه ولكن النفوس التي شاركت في هذه الواقعة لم ترمم ولم يتم تنظيف ما فيها من احقاد.
ثانيها: صدمة السجون المزدحمة : هناك اعداد كبيرة من الذين تم القبض عليهم بتهم متفاوتة، ولا يوجد سجن يمكن أن يتسع للجميع، وتنظيم الاخوان كان كبيرا والمتعاطفين معهم كانوا أكبر، ويمكن أن نقدرها بالأعداد التي انتخبت الرئيس مرسي في المرة الاولى، خمسة مليون شخص، انتخبوه بمحض ارادتهم، أي اننا نواجد عددا كبيرا من افراد هذا التنظيم ، المستترون منهم اكثر من الظاهرين، جيش ضخم يسكن بيننا، ليسوا كلهم ميالين للعنف، وليسوا جميعهم قتلة متسللين، والله اعلم بأسرار القلوب، ولكن السجون تختنق بأعداد كبيرة منهم، ويوجد خارجها اعداد اكبر، كل مسجون سياسي له عائلة في الخارج، قنبلة موقوتة على الاستعداد للانفجار، ومن ابناء هؤلاء السجناء يمكن أن يأتي قتلة مشبعون بروح الانتقام، ظروف السجون سيئة، وانتقادات منظمات حقوق الانسان لا تتوقف، وشهادات المسجونين لم يعد من الممكن كتمها، وصفحات التواصل مليئة بالشكاوي والقصص المرعبة، يجب التفكير جيدا في تفريغ السجون، كشوف الافراج عن مائة أو مائتين ليست كافية، هي اشبه بأقراص المسكنات لن تفيد في مواجهة حالة الحمى التي تعصف بجسد الوطن، لابد من مبادرة جريئة لتفريغ السجون وجعلها أكثر إنسانية.
ثالثها: صدمة الحالة الاقتصادية الصعبة: انها تزداد صعوبة، وتزداد اعداد الشباب العاطلين عن العمل، العاجزين عن أي أمل في المستقبل، ليسوا آلافا ولكن ملايين، فقدوا الأمل في أي مستقبل، وعلى استعداد لفعل أي شيء للخرج من حالة العجز، هؤلاء من السهل شرائهم وتطويعهم وتحويلهم إلى قتلة، فالمجتمع لم يمنحهم الفرصة للحياة، لذا فالانتقام منه فريضة عين كما قال أحدهم، إننا نعيش اياما صعبه لأن العدو يسكن بيننا وربما في داخلنا.