يرجع باحثون الإصابة بالتسمم إلى الأوعية والأمكنة التي يصنع فيها الغذاء والتي تحتوي على مستويات عالية من التلوث والبكتيريا القاتلة. فقد لا ينتبه الكثيرون أو لا يلقون بالا لمنضدة المطبخ أو أدوات الطبخ غير المعقمة ولا يتصورون أن مثل هذه العوامل البسيطة يمكن أن تودي بحياتهم.
نشرت الشبكة البريطانية، بي بي سي، تقريرا مفصلا عن عملية استقصاء قام بها فريق من المفتشين المتخصصين في الغذاء وتأثيره على الصحة العامة. رصد المفتشون الحالات المصابة بالتسمم وتتبعوها حالة بحالة للتعرف بشكل أدق على شروط تناول المصابين للطعام.
وقبل تحليل الحالات، تم جمع المعلومات حول بداية ظهور التسمم وكيفية تطوره. جاء في التقرير أنه في ديسمبر عام 2015، ظهرت حالات تسمم غذائي متفرقة في الولايات المتحدة الأميركية. ورغم أنها لم تكن حالات كثيرة في كل مرة، فقد ظلت تظهر بشكل متواصل لفترة طويلة.
وكان من بين الأعراض التي أبلغ عنها المصابون القيء والإسهال المصحوب بالدماء. وأظهرت نتائج التحاليل وجود سلالات خطيرة من بكتيريا “إيشريشيا كولاي” (إي كولاي) لدى المصابين.
وانتشرت العدوى في أنحاء الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي حذرت فيه هيئة مراكز السيطرة على الأمراض (سي دي سي) للمرة الأولى من تفشي بكتيريا “إي كولاي” في البلاد، ظهرت حالات تسمم ناتجة عن الإصابة بتلك البكتيريا في 20 ولاية أميركية، ونُقلت عشر حالات منها إلى المستشفى.
يقول إيان ويليامز، مدير إدارة التعامل مع الأمراض المنقولة بواسطة الأغذية والمياه والبيئة ومكافحتها، لدى هيئة مراكز السيطرة على الأمراض بالولايات المتحدة، إن مفتش الصحة العامة يقضي 30 أو 40 دقيقة مع كل مريض في الاستجواب المعتاد. والهدف هو التوصل إلى الأطعمة التي تناولها جميع المرضى قبل ظهور الأعراض.
وقد قررت هيئة مراكز السيطرة على الأمراض أن تتبع أسلوبا جديدا نسبيا ولكنه قوي، وهو تحديد تسلسل جينوم بكتيريا إي كولاي لدى كل مريض.
وتبين أن البصمات الوراثية للبكتيريا متطابقة أو تكاد تكون متطابقة. وهذا يعني أن العدوى ناتجة عن المصدر نفسه. لكن ما هو المصدر؟ وفي الأثناء، استمر تقاطر الحالات على تلك المراكز، ويقول ويليامز “كنا نستقبل من ثلاث إلى خمس حالات في الأسبوع وامتد الأمر لأسابيع”.
كان ذلك أمرا غريبا؛ لقد انتشرت العدوى انتشارا واسعا، ففي كل مرة كان يأتي عدد قليل من المرضى، كأنما يتناول المرضى منتجا ما على فترات متباعدة أو يحتفظون به ليأكلوه من حين إلى آخر.
وكان المحققون يتابعون معدلات الإصابة التي تسجلها المعامل التي يجري فيها المصابون التحاليل للكشف عن البكتيريا، ثم تحملها عبر شبكة “بالس نت”. ومن خلال هذه الشبكة، تأكدت هيئة مراكز السيطرة على الأمراض من تفشي بكتيريا إي كولاي في الولايات المتحدة، ومن أنها آخذة في الانتشار. ورغم ذلك ظل مصدرها غامضا.
وقد توصل المفتشون إلى استنتاجات مذهلة؛ فعلى سبيل المثال، منذ ست سنوات انتشرت حالات تسمم ناتجة عن بكتيريا السلمونيلا انتشارا واسعا، وكان أكثر المصابين من الأطفال.
ولم يسفر الاستجواب أيضا عن نتائج مفيدة وحاول المفتشون الحصول على معلومات بطرق شتى، ثم لاحظوا أن الكثير من المرضى لديهم أحواض لتربية الأسماك في منازلهم.
ثم اكتشفوا أن هذه السلالة من السلمونيلا لم يكن مصدرها الطعام، إنما كان مصدرها الضفادع التي تربى في تلك الأحواض؛ إذ تبين أن جميع المصابين يربون الضفادع المائية الأفريقية. وبعد التحقيق مع الشركة الموردة لهذا النوع من الضفادع، انتهى تفشي بكتيريا السلمونيلا.
أما في حالة تفشي بكتيريا إي كولاي في عام 2015، فقد نجح المفتشون في تبديد الغموض الذي يكتنف انتشار هذه البكتيريا من خلال تتبع عادات المرضى؛ إذ لاحظ مسؤول الاستقصاء الوبائي المكلف بمتابعة هذه القضية منذ البداية أن المصابين، وأغلبهم من النساء، يكثرون من خبز المعجنات. ورغم أن الخضروات واللحوم غير المطهية تعد مصدرا رئيسيا لهذه السلالات من إي كولاي، فهل من الممكن أن توجد هذه السلالات في الدقيق أيضا؟
والمشكلة التي واجهت المفتشين أن الناس يفضلون إفراغ الدقيق في أوعية والتخلص من العبوات البلاستيكية، وكان من الصعب معرفة العلامة التجارية للدقيق الذي استخدمه المصابون.
لكن المفتشين تمكّنوا من العثور على عبوتي دقيق في منازل المصابين بولايتين مختلفتين، وكانتا تحملان اسم “غولد ميدال”، وكان مصدرهما المطحنة نفسها في مدينة كانساس، بولاية ميسوري، وتاريخ إنتاج إحداهما يسبق تاريخ إنتاج الأخرى بيوم واحد.
ويقول ويليامز “كان الخيط الأخير الذي قادنا إلى حل هذا اللغز هو أن ثلاثة أطفال تناولوا الطعام في ثلاثة فروع مختلفة من سلسلة المطاعم المكسيكية نفسها”.
وقد اعتاد العاملون في هذه السلسلة من المطاعم إعطاء الأطفال كرات عجين خبز التورتيلا لكي يلهوا بها إلى حين وصول الطعام على المائدة.
ويضيف ويليامز أن الهيئات الصحية تواصلت مع شركة “جنرال ميلز” للسلع الغذائية، المنتجة لدقيق “غولد ميدال”، وسرعان ما دعت الشركة المستهلكين إلى التخلص من المنتجات المصنوعة أثناء المدة التي تعتقد أن التلوث وقع خلالها.
إن الدقيق من المنتجات التي لا تؤكل في المعتاد من دون طهي. وقد لا يخطر ببالك أن القليل من الدقيق الذي ترشه على طاولة إعداد الطعام في المطبخ قد يسبب لك مشكلة صحية. لكن في الحقيقة، الدقيق هو منتج زراعي نيء في نهاية الأمر، وهو يأتي من المزارع حيث توجد الحيوانات المتسببة في انتشار بكتيريا إي كولاي.