بقلم: محمد منسي قنديل
يحاول العالم إلغاء حكم الإعدام، ليس فقط لأنها عقوبة وحشية من مخلفات القرون الوسطى، ولكن لأنها قاطعة وباترة لا يمكن التراجع عنها حتى لو ظهرت براءة المتهم، والأخطر أن بعض الأنظمة تستغلها بوفرة للقضاء على خصومها السياسيين، ولكن كعادتنا في السير عكس الزمن مازلنا نبالغ في الحفاوة بهذه العقوبة، ونسعى لإعادتها إلى جذورها البدائية، فبدلا من الإعدام الفردي الذي يجب آلا يتم إلا في مقابل جريمة محددة، مدعمة بالأدلة والبراهين، اصبحنا نفرط في استخدام الإعدام الجماعي دون أن نحدد معالم الجريمة التي تخص كل متهم، هناك دائما جريمة على المشاع، لا نعرف دور كل فرد فيها، ولا على أي أساس استحق تلك العقوبة القاسية، لذا يأتي الحكم بالجملة، كما في سوق العبور، فالقاضي، يد الله في الأرض، يجب أن يتوثق من الاتهام، وان يمتلك تبربرا منطقيا قبل وضع الحبل حول رقبة إنسان ولو بسطر نحيف وسط قائمة الاتهام، لا أدري كيف يتحمل ضمير القاضي عبء هذه الاحكام الجماعية، وهل كان وهو ينطقها متأكدا من كلماته ؟ وإن كان متأكدا لهذا الحد فكيف يحدث دائما أن تنقض هذه الاحكام وأن تسقط كأن لم تكن وتعود المحاكمات مرة ثانية؟
مر عام منذ أن اغتيل النائب العام هشام بركات في انفجار مروع وغريب، مات فيها النائب وحده وكل من سقط كانوا من الجرحى ودمر حوالي ثلاثين بيتا من الحي، 16و محلا تجاريا، وعددا من سيارات الأجرة، خسائر لم يتذكرها أحد، وكان انفعال رئيس الجمهورية طاغيا، فهذا الاغتيال قد هز هيبة الدولة، ولكنه بدلا من أن يعد الجميع بتحقيق العدالة القى اللوم على القانون، لأنه بطئ وعاجز عن أخذ القصاص، واحدث التصريح دويا هائلا يوازي دوي الانفجار السابق، فالرئيس يتحدث عن عجز القانون كما تحدث من قبل عن النوايا الطيبة التي كتب بها الدستور، الرابط الوحيد الذي يربط الحاكم بالرعية، ويدخلنا جميعا فيما يطلق عليه علماء السياسة العبودية الطوعية للدولة، وقد بدا مع موت النائب العام أن جزءا من القانون قد اندثر، فهل كان هذا مبررا مبكرا لحكم الجملة الذي صدر بتحويل أوراق 30 متهما إلى المفتي.
تحدثت قوات الامن عن ثلاثة من المتهمين تم القبض عليهم ورابع مازال هاربا، ثم اضافوا إليهم حوالي 11 متهما آخر تعاونوا وجهزوا السلاح وقاموا برصد تحركات موكب النائب العام، ثم ارتفع الرقم فجأة إلى 67 متهما، وقيل أنهم يمثلون تنظيما مرعبا وما اغتيال النائب العام إلا مقدمة لسلسلة رهيبة من الاغتيالات، وفي المرافعة الانشائية الطويلة التي القاها وكيل النيابة وممثل الادعاء شن حملة رهيبة على منظمة حماس، سيرا على العرف السائد بإلصاق كل عملية بها دون ان يقدم دليلا واحدا يربطها بها أو يثبت أن متهما في القضية قد تسلل عبر الحدود، دون توصيف الجرم ودون تحديد مسئولية المتهمين، وجاء الحكم على المنوال نفسه عام وغير محدد، يؤكد امام الجميع أن الطريق للمشنقة مفروش بالنوايا الحسنة.
مع كل حكم من هذا النوع تبدأ وسائل الاعلام العالمية في الطنين، فحكم الإعدام بالجملة يتصدر العناوين، والقضاء المصري يصبح متهما بالخضوع لأهواء السياسة، لا تحركه نصوص القانون ولكن نوازع الانتقام، موقف لا يحبه أي مصري مغترب لا يريد أن يرى قضاء بلده، حصن العدل، الأخير متهما بالتحيز، وليست هذه المرة الأولى ولكن التهمة أصبحت تتكرر كثيرا في الآونة الأخيرة، ففي القرون الوسطى التي كانت تعد مظلمة ولا قيمة فيها لحياة الاقراد قال الطبيب اليهودي المعروف موسى بن ميمون : «من الأفضل أن يتم تبرئة الفين متهما من إعدام برئ واحد»، كان قولا متقدما وسط عصر من الاعدامات الوحشية لأوهن الأسباب، ولكن هذا لم يردع بعض قضاة العالم وخاصة في مصر عن التوسع، ففي مركز مطاي بالمنيا أحال احد القضاة أوراق 632 للمفتي، هل يمكن تصور اعدام مثل هذا العدد الضخم،؟ هل يمكن القول أن كل واحد منهم أخذ حقه في الدفاع؟ يقال أن القاضي قد رفض الاستماع إلى أي من المحامين، الأمر الذي دفعهم إلى عدم حضور المحاكمة، وواصل القاضي تحديه واصدر الحكم دون حضورهم، ورغم أن رأي المفتي في مثل هذه الأمور يعد استشاريا، وليس أمامه إلا أن يوقع بالموافقة، إلا انه قد تردد أمام هذه الاعداد الهائلة، ولم يجد في الأوراق ما يبرر قتلهم جميعا، واعادهم للقاضي مرة أخرى، وكان رده أنه عاد ليحكم في قضية أخرى مشابهة ويأمر بتحويل 39 متهما آخرين إلى المفتي، كأنه بائع في سوق الجملة.
يقلل البعض من أهمية هذه الاحكام، فهي من الدرجة الأولي، سوف تستأنف وتنقض وربما تلغى، ولكن صدمتها كبيرة خاصة للأهالي ولسمعة مصر الخارجية كبلد يقف على حافة التحضر، ومن الغريب أن القضاة في مصر لا يتأثرون بحكم النقض رغم أنه قد تم نقض كل قضاياهم الكبرى والغيت احكامها، وكما قلت في مقال سابق، ففي البلاد الغربية عندما يتم نقض حكم أو حكمين للقاضي يكون في وضع حرج قد يدفعه لتقديم استقالته، ولكن في مصر تتراوح الاحكام من العقوبة المبالغ فيها إلى البراءة التامة دون يتساءل أحد عن السبب في هذا التناقض الصارخ، كما في حالة الرئيس السابق حسني مبارك، فقد كان الجميع يتوقعون له حكم الإعدام، ولكن القاضي لم يأخذ بالشعور العام وحكم بالسجن المؤبد، وتم نقض هذا الحكم رغم أنف الجميع وأعيدت المحاكمة وتم تبرئة الرئيس من كل هذه الجرائم، هكذا تجمعت كل الأمور المتناقضة في قضية وحيدة دون أن تتم أي مساءلة أو محاسبة لأي من القاضين كأنهما يصدران احكاما إلهية مطلقة.
علينا أن نكف عن العبث بالقانون، وإذا كان رأس الدولة لا يقدم له الاحترام اللائق به فعلى القضاة أن يوفروا له هذا الاحترام، ومادمنا لا نعيش في العصور الوسطى فلا يجب أن نحكم بأساليب هذه العصور، ويرى كثير من المراقبين أن جنوب افريقيا من اكثر الدول الافريقية تقدما لأنها الوحيدة في هذه القارة التي الغت عقوبة الإعدام، ونحن لم نلغها ولكن على الأقل علينا أن نكف عن العبث بها وان ندرك أن ازهاق الأرواح البشرية ليس بالأمر الهين حتى بالنسبة لمن قاموا بإزهاق هذه الأرواح، لقد تخلفنا في الكثير من الأمور وعلى الأقل علينا أن نكون متحضرين وعادلين ونحن نسعى للقصاص.