بقلم: علي عبيد
«هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة. إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا. والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون…». هذا ما يقوله نزار قباني واصفا البيت الذي وُلِد ونشأ فيه؛ «دار «مئذنة الشحم» التي يقول إنها «المفتاح إلى شعره، والمدخل الصحيح إليه».
ربما لا نكون قد حضينا بالقدر الجميل الذي جعل نزارا والدمشقيين ينعمون بالسكن في هذه المدينة العريقة، ويعيشون في جنة تفتح لهم ذراعيها من حيث لا ينتظرون، لكن دمشق سكنتنا جميعا، من مشرق الوطن العربي إلى مغربه؛ بحاراتها، وأزقتها، وأسواقها، وياسمينها، وناسها، وقاسيونها، وعنفوانها، ووقوفها صامدة في الأزمات، وعدم انكسارها في كل المرات التي حاول الغزاة أن يكسروها فيها، قبل أن يرحلوا عنها وهم يجرّون ذيول الخيبة خلفهم، وتبقى هي شامخة كعهدنا بها دائما.
كل هذا الجمال الذي حوته نصوص نزار الشعرية والنثرية، على حد سواء، لا يمكن أن ندركه إلا إذا أدركنا مقدار الجمال الذي حوته دمشق، وكي ندرك مقدار الجمال الذي حوته دمشق يجب أن نرصد مكامن الجمال الذي حوته دورها، وكي نرصد مكامن الجمال الذي حوته دور دمشق علينا أن نقرأ نص «دارنا الدمشقية» لنتعرف على البيئة التي ولد فيها نزار وحبا، ونطق كلماته الأولى فيها ونشأ، وذاق طعم الجمال فيها حتى انتشى.
لقد كان اتصال نزار بالجمال قدرا يوميا. كان إذا تعثر تعثر بجناح حمامة، وإذا سقط سقط على حضن وردة. لذلك استحوذت «الدار الدمشقية» على كل مشاعره، وأفقدته شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل الصبيان في كل الحارات، ومن هنا نشأ عنده هذا الحس «البيتوتي» الذي رافقه في كل مراحل حياته، وجعله يشعر بنوع من الاكتفاء الذاتي، وجعل التسكع على أرصفة الشوارع، واصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال عملا ترفضه طبيعته، وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من «أكاديمية المقاهي» فإن نزار ا لم يكن من خريجيها. فقد آمن بأن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه، ومراسمه، وطهارته. وكان من الصعب عليه أن يفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجاد من نرابيش النراجيل، وطقطقة أحجار النرد. كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عنده. كان الصديق، والواحة، والمشتى، والمصيف. وقد ترك بصماته على شعره، كما تركت غرناطة وقرطبة وأشبيلية بصماتها على الشعر الأندلسي، مثلما يقول نزار.
كانت للدار الدمشقية التي قضى فيها نزار طفولته سمات طبعت بصماتها عميقا في شخصية نزار. بصمات هذا البيت الدمشقي الذي سرد تفاصيله نزار نجدها على نصوص كثيرة من شعره الذي يظهر فيه أثر البيت مطبوعا في زوايا القصيدة، نجد أغلبها فوق السطور ونجد بعضا منها بينها، تختار مفرداتها من مفردات هذا البيت، وتصطبغ بيئتها ببيئته، وتندمج أجواؤها بجوه. هذه الأجواء التي نلمسها في كل نصوص نزار، وهذه المفردات التي تكررت فيها تدل على مدى تأثير البيت الدمشقي في نفس نزار وشعره، وهو تأثير سوف يقابلنا في كل قصائده ونصوصه تقريبا؛ في حالات الحزن والفرح، وفي مواقف الضيق والانشراح، وفي وقفات التفكير والتأمل، تلك التي يستدعي فيها الإنسان أعمق ما فيه، وأجمل ما فيه، وأنبل ما فيه، وأصدق ما فيه، وأكثر ما فيه تأثيرا، ويعود إلى هذا كله بإرادته حينا، ومدفوعا بالحنين أحيانا.
إنها روح «الدار الدمشقية» بياسمينها، ونوارها، وقداحها، وقططها، وبُنِّها، ومجلس أبيه، ووجه أمه، فأي تأثير يمكن أن نجده لدار على شاعر وبوحه، أكثر من تأثير «الدار الدمشقية» على نزار وشعره؟ لقد حمل نزار مهذه الدار إلى كل مكان ذهب إليه، كما يعترف وهو يختم هذا النص الجميل المؤثر قائلا:
«ولقد سافرت كثيراً بعد ذلك, وابتعدت عن دمشق، موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً، وتعلمت لغات كثيرة أخرى، إلا أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي وثيابي، وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناعٍ، وفل، وورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتها.. حملت معي دمشق، ونمت معها على سريرٍ واحد».
دمشق التي حوت تلك الدار، هي تلك المدينة التي سكنت قلوبنا وأرواحنا واستحوذت على مشاعرنا. فكيف هي «الدار الدمشقية» اليوم، بعد كل هذا الذي تعرضت له؟
وكيف هي دمشق اليوم، بعد كل دخان البندق والمدافع والقذائف التي أطلقت فيها وعليها؟
كيف هي بعد كل هذا الاقتتال الذي جرى على أرضها وحولها؟
كيف هي بعد كل هذه الدماء التي صبغت نهرها ولوثت مياهها؟
كيف هي بعد كل هذه الآلام التي حلت بأهلها؟
كيف هي بعد أن رحل عنها نزار وفي قلبه غصة، وعلى خده دمعة، وغادرها حاملا معه أوراقه وأقلامه وأحلامه؟
رغم هذا كله، تبقى دمشق هي دمشق. تبقى هي الواحة التي نلجأ إليها كلما تعبت نفوسنا..
تبقى هي النهر الذي نرتوي منه كلما ظمأت أرواحنا..
تبقى هي الشجرة التي نتفيأ بظلالها كلما اكتوينا بجحيم آثامنا وخطايانا ونزغات الشياطين التي تتلبسنا.
تبقى دمشق هي الرحم الذي علم نزارا الشعر، الذي علمه الإبداع، والذي علمه أبجدية الياسمين، مثلما قال عنها وهو يوصي بأن يُدفَن فيها.