بقلم: محمد منسي قنديل
ربما لن تعجبها هذه السطور، فقد تعودت أن تتجنب الاضواء ولا تنتظر المديح، واستطاعت بهذا الصمت أن تفعل المستحيل، أن تتحمل أحزانها الخاصة، وتصبح روحا متفانية في خدمة الآخرين، تنسى الوجع الشخصي في مداواة أوجاع الآخرين، وهبها الله فطرة بعث الأمل في نفوس غاب عنها الأمل، وتصدت لإنقاذ الحياة عندما انعدمت قيمة الحياة وبات من السهل سفحها على الاسفلت، انها السيدة هبة السويدي، التي كان من الممكن أن تكون مجرد سيدة ثرية ومدللة مثال آلاف غيرها من بنات الأثرياء الذين لا قيمة لهن ولا وزن ، ولكنها شاءت أن تخرج من قوقعتها الضيقة إلى العالم الرحب رغم صعوبته، وأن تهب حياتها لقضايا أكبر تمس روح الوطن، انحازت للثورة المصرية منذ اللحظات الأولى رغم أنها كانت دامية ، وتدافع الاطباء للميدان لإنقاذ ما يمكن انقاذه، لم يكن من الممكن أهدار ارواح شباب الثورة بهذا الشكل المريع، وكانت هبة السويدي في مقدمة الذين هبوا لمد يد المساعدة، بوصفها انسانة اولا وطبيبة ثانيا، مست قلبها هذه الدرجة من العنف، تقدمت هذه السيدة لتنشئ عددا من المستشفيات الميدانية تستوعب الذين يسقطون كل يوم، وجد المصابون من يمد يده إليهم ويوفر لهم العلاج داخل مصر، ومن تتفاقم حالته كان يتم ارساله للخارج على نفقتها، قامت السيدة هبة بعلاج حوالي ثلاثة آلاف وستمائة مصاب خلال احداث الثورة الدامية، فعلت ذلك في صمت وتفان وقد تلقى شباب الثورة تلك المساعدة بامتنان واطلقوا عليها لقب «ام الثوار».
الثورة المصرية تم الغدر بها، التف عليها الكثيرون وحاصروها بالأكاذيب، لم يظفر شبابها الذين جرى تشويههم بأي منصب من المناصب، ولم ينل شهدائها أي نوع من التكريم، وتم القبض على العديد من رموزها ولفقت لهم التهم الظالمة ووضعوا داخل السجون، وحتى ذكرى اليوم الذي قامت فيه الثورة تم تجاهله وتحول إلى عيد للذين حاولوا القضاء عليها، ورغم كل هذا العسف فلا زال هناك من يؤمنون بها، يقبضون على الجمر الذي اشعلته والذي مازال مختبئا تحت الرماد، ولدت الشرارة الأولى للثورة مع بضع من الشباب الذين ولدوا وعاشوا وماتت احلامهم تحت ظل التخلف الذي نجحوا رغما عنه في الدخول إلى عصر ثورة المعلومات، استطاعوا أن يروا عالما مختلفا بعيدا عن واقعهم المتخلف، اكتشفوا أنهم يتعرضون للقمع والكذب والخداع وأن هناك نظاما يتوارثهم دون ارادة أو رغبة منهم كأنهم قطيع، لم يعد يمكنهم السكوت على وطن تتخلف فيه الحياة كل يوم بينما يتقدم العالم في كل لحظة، فقد خرجوا عزلا من كل سلاح في مواجهة شرطة مدججة بكل اسلحة الردع، وفي يوم الجمعة الأسود دفعوا الثمن غاليا من دمائهم، وتراجعت الشرطة الظاهرة من الشوارع لتبدأ الشرطة السرية عملها ولكن الثورة كانت قد كشفت عن وجهها المتمرد التوق للتغير، للمرة الأولى بدت بشائر عصر جديد، آمن بالثورة معظم الكتاب والمبدعين المصريين لأنهم كانوا قد انتظروها طويلا، واساتذة الجامعة وخاصة طليعتهم المفكرة، ثم آمن بها بقية فئات الشعب على مختلف طبقاتهم وانتقلت الثورة من ميدان التحرير إلى كل ميادين مصر، ولم يتصور المصريون جميعا بعد أن مضى عمر طويل من القمع أن يأتي يوم يشرق على بلدهم مثل هذا اليوم المفعم بالغضب، وأن تتأتي لهم القدرة على اسقاط واحد من الفراعنة بعد حكم دام ثلاثين عاما، وآمنت بها سيدة ذات قلب مفعم بالإنسانية هي هبة السويدي.
إنها سليلة عنصريين كريمين، أمها سعودية، وأبوها مصري، عاشت طفولتها في السعودية حتى تخرجت كطبيبة، ولكن حياتها شهدت تحولا مهما عندما تزوجت بابن عمها وجاءت لتعيش في القاهرة وتنجب أولادها الثلاثة، اشتغلت قليلا في مجال الأعمال ولكنها لم تجد فيها ما يغني نفسها، وجاءت الثورة المصرية في موعد قدري لتتوافق مع طموحها الجارف لفعل الخير، انشأت مؤسستها الخيرية لمد يد المعونة لشباب الثورة الذي اصابتهم قوات النظام ثم تركته ليموتوا على الطريق أو ليمضوا بقية حياتهم يعانون من الاعاقات، احسنت استخدام ثروتها، كما احسنت استخدام علاقاتها الاجتماعية حتى تقدم كل انواع العلاج لمصابي الثورة، بل أنها قدمت يد العون لبعض ضحايا الاضطرابات في ليبيا، جاء حوالي اربعون من الجرحى في حافلات إلى القاهرة حيث كانت في انتظارهم لتقدم لهم العلاج والرعاية.
لم تكن تفرق في جهدها الإنساني بين الانتماءات السياسية للجرحى إلا أن الاخوان ناصبوها العداء، عندما امسكوا بزمام الحكم في تلك السنة الكبيسة من عمر مصر قبضوا على واحد من ابنائها بتهمة المشاركة في احداث المقطم، وصرحت هي بمرارة: «ابني ليس بلطجيا لقد شارك في كل احداث الثورة»، وتجمع الاهالي الغاضبين في ساحة جهاز امن الدولة يطالبون بالإفراج عنه، كان من الطبيعي أن يقفوا بجانب السيدة التي طالما وقفت بجانبهم، وقد ظفرت بابنها أخيرا من قبضة هذه الجماعة، كما أن جماعة الاخوان المسلمين برمتها قد زالت من الحكم.
ولكن القدر كان يخبئ لها وجعا انسانيا أكبر، ضربة قاصمة اصابتها عندما فقدت ابنها اسماعيل في الثامنة عشر من العمر، كان قد انتهى من الثانوية العامة ويستعد للسفر إلى لندن لدراسة الفن، ولكن لابد أن موجة من الاكتئاب الحاد قد داهمته وأدت به للانتحار داخل غرفته، حادثة غامضة لم يعرف دوافعها حتى الآن، ولكنها ليست الأولى في هذه العائلة الثرية التي اعطاها الله كل شيء إلا هدوء البال، لم يكن أمام الأم المحزونة إلا أن تنخرط أكثر في عملها الخيري، بدأت مشروعها الكبير من اجل انشاء أول مستشفى متخصصة من نوعها في علاج الحروق، كان قيام هذا الصرح هو عزائها الخاص، لقد فقدت الأمل ذات لحظة ولكنها كالعادة تسامت على حزنها الخاص وعادت كدأبها القديم تشع بالأمل وتهبه للآخرين، تحية لهذه السيدة، النقطة الأمل المضيئة وسط العتمة والفوضى التي نعاني منها.