بقلم: علي عبيد
من جديد تصدمنا التقارير الصادرة من جهات الرصد المختلفة حول يحدث في منطقتنا وينعكس على مناطق عديدة من العالم، مما نراه لا يتفق مع منطقنا نحن الذين نعتبر أنفسنا عقلاء أسوياء، بينما يعتبرنا أصحاب المعسكر الآخر مختلين عقليا منحرفين عن الطريق السوي. آخرها التقرير نشره «مرصد الأزهر باللغات الأجنبية» بتاريخ 28 يناير، ورصد من خلاله وسائل تنظيم «داعش» لاستقطاب الشباب المسلم، وأسباب انضمام الشباب الغربي إلى التنظيم، وأسباب الانشقاق عن صفوفه والعودة إلى الوطن، وموقف الدول الأوروبية من العائدين، مقدما نماذج لشهادات تم رصدها للعائدين، ومجموعة من النتائج والتوصيات التي توصل إليها بعد هذا الرصد.
أول ما يصدمنا في تقرير مرصد الأزهر أنه بالرغم من الجهود الدولية المتواصلة لاحتواء تنظيم «داعش» الإرهابي، ووقف تدفق سفر المسلحين إلى سوريا، إلا أن عدد المقاتلين المنضمين إلى التنظيم قد تضاعف نحو ثلاث مرات خلال عام ونصف فقط، حيث كان عددهم في شهر يونيو من عام 2014 قد بلغ 12 ألف مقاتل من 81 دولة، بينما تفيد أحدث التقارير الصادرة في شهر ديسمبر من عام 2015 أن إجمالي من سافروا إلى سوريا والعراق بنية الانضمام إلى «داعش» وغيره من الجماعات المتطرفة يرواح بين 27 ألفا إلى 31 ألف مقاتل ينتمون إلى 86 دولة، وتحتل أوربا الغربية المرتبة الثالثة بين أكثر المناطق تصديرا للمتطرفين المنضمين إلى داعش، بتعداد بلغ 5000 مقاتل، بينما تأتي منطقتا الشرق الأوسط والمغرب العربي في المرتبتين الثانية والثالثة، وتتصدر فرنسا الدول الغربية من حيث عدد المقاتلين المنضمين إلى داعش بتعداد بلغ 1700 مقاتل، بينما تأتي تونس في مقدمة الدول الغربية بتعداد بلغ 6000 مقاتل.
هذه الأرقام والحقائق تعني أن كل الجهود التي بُذلِت حتى الآن للحد من ظاهرة الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية المتطرفة ما زالت عاجزة عن تحقيق أهدافها، وأن هذه التنظيمات ما زالت تكسب تستقطب مجموعة من الشباب تضمهم إلى صفوفها، وتستخدم وسائل تتماشى مع توجهات الشباب وإقبالهم على التقنيات الحديثة، وعلى رأس هذه الوسائل وسائط التواصل الاجتماعي. فوفقا لدراسة أعدها مركز «بروكينجز» الأميركي، هناك أكثر من 46 ألف حساب لداعش على شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر» وحدها، كما أن هناك العديد من الإحصاءات التي تؤكد أن شبكات التواصل الاجتماعي هي الساحة الفكرية المسؤولة عن تجنيد 80% من عناصر الجماعات المتطرفة، فكيف استطاعت هذه التنظيمات الإرهابية إقناع كل هؤلاء الشباب بالانضمام إليها؟
تصور «داعش» نفسها على أنها الجماعة الوحيدة التي تتبع الحق، وأنها المدينة الإسلامية الفاضلة التي تسعى إلى تكوين خلافة إسلامية على منهاج النبوة، يحلم كل مسلم بالعيش في ظل سلطتها، فالعدل كما تدّعي يسود المناطق التي تسيطر عليها، وأنها تطبق الحدود الشرعية، حيث يعيش الناس في رفاهية ورغد، كما أنها ترسم صورة رومانسية لفكرة العنف، فتصوره كأنه لعبة سهلة، مثل ألعاب الفيديو التي لا تنتهي أبدا، حتى لو مات البطل فبإمكان اللاعب أن يبدأ اللعبة من جديد، لذا فإن الجماعة لا تنشر صور قتلاها، وإنما تنشر صورهم وهم مبتسمون. وكان من نتيجة هذا أن انضم إلى «داعش» فتيات أوروبيات نشأن في ظل المدنية وحقوق الإنسان، وعدتهن الجماعة بالجنة، ودعتهن إلى أن يصبحن زوجات لمجاهدين وأرامل لمقاتلين شهداء، وهذه فكرة تروق لكثير من الفتيات المراهقات، لذلك نلاحظ أن جُلّ الفتيات اللواتي انضممن إلى «داعش» قاصرات ومراهقات، تتراوح أعمارهن بين 15 و22 عاما، بمتوسط مقداره 18 عاما، أتين من استراليا والنمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة بنية الزواج من المجاهد المحارب الذي حلمن به. هذا إلى جانب دوافع أخرى اجتماعية وأسرية ونفسية وتربوية ودينية، لعبت دورا كبيرا في هجرة الشباب الغربي إلى داعش، ولكن إلى أي مدى تصمد هذه الدوافع، وهل تتحقق هذه الأحلام على أرض الواقع في المدينة الإسلامية الفاضلة التي تتاجر «داعش» وأخواتها بصورتها، وتغري الشباب بالهجرة إليها؟
تشير التقارير إلى أن هناك ما يقرب من 20 ألف شخص انضموا إلى «داعش» خلال العامين الماضيين وهم في غفلة عن الوجه الحقيقي لهذا التنظيم، استيقظ الكثير منهم على مشاهد الرعب والوحشية التي يقترفها التنظيم حتى ضد المسلمين أنفسهم، مما دفع العديد منهم إلى محاولة العودة لبلدانهم، فمنهم من استطاع الرجوع ومنهم من لم يستطع. وقد أكد المنشقون أن الجماعة لم تكن على مستوى توقعاتهم السياسية والدينية والمادية، وأن أفعالها وتصرفاتها لم تكن متسقة مع دعاويها ومنهجيتها، وكان من أهم الأسباب التي وردت في دوافع المنشقين إلى العودة لأوطانهم اقتتال الجماعة الداخلي، والوحشية التي تمارسها ضد المسلمين السنة، والفساد والسلوك غير الإسلامي، ومستوى المعيشة ونوعية الحياة داخل التنظيم.
ربما تبدو الصورة لنا نحن الذين نقف خارج إطارها واضحة وجلية، لكنها لدى الكثيرين ممن يعيشون داخل الإطار ما زالت ملتبسة وضبابية، لذلك فإن التعامل مع الذين لم يقعوا في شرك «داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية يبدو صعبا، كما أن التعامل مع الذين وقعوا في الشرك يبدو أصعب، خاصة في ظل توقع أوروبا رجوعا جماعيا لنحو 5000 مقاتل يحاربون في صفوف تنظيم «داعش» الإرهابي، فمعظم العائدين حتى الآن هم من الذين خاب أملهم في التنظيم، أما الإرهابيون الأشد تطرفا فلم يصلوا بعد.